الأربعاء، 30 مايو 2012

لماذا قامت الثورة؟

"لماذا قامت الثورة؟ أنا ما أعرفش لماذا قمت الثورة. أنا كنت في الحمام ساعتها." هكذا قال الفنان عادل إمام في مسرحيته "الزعيم" متهكماً على حكام البلاد العربية الذين يركبون موجة الثورات ثم يستبدون بالحكم. و أنا أحاول أن أسأل نفسي الآن و أفكر في السبب التي قامت من أجله ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ و الأهداف التي كانت تهدف إليها إن وجدت.

بدأت الثورة بمجموعة من الشباب الواعد الذي قرر أن يتظاهر في ميدان التحرير و تركته الحكومة كالعادة ظانة أنها مظاهرة مثل باقي المظاهرات و ستنتهي. لكن الشباب قرر أن يبيت الليل في ميدان التحرير هاتفين ضد الحكومة و النظام حتى الصباح. فما كان من وزارة الداخلية إلا أنها تصرفت التصرف الوحيد الذي تعرفه و هو قمع المظاهرة بالعنف. سقط ضحايا ما بين شهداء و مصابين، و كان من الممكن أن تنتهي المظاهرة عند هذا الحد، لولا ثورة الاتصالات التي حدثت في العقدين الأخيرين. صُوِّر الاعتداء على المتظاهرين و تناقلته وسائل الاتصال صوتاً و صورة و نتج عن ذلك توافد أعداد من المؤيدين للمتظاهرين على ميدان التحرير للتضامن معهم و تكثير سوادهم.

و لكن النظام لا يعرف سوى القمع، و كان رده على ذلك المزيد من المحاولات العنيفة لقمع المظاهرات. و أذكر أنني قلت حينذاك "خليهم يضربوا و يفتروا أكتر علشان الناس تهيج عليهم أكتر"، و قد كان. اتسع نطاق التظاهر و زاد عدد المتظاهرين و انضم لهم من المواطنين من كان على وشك الانفجار من الضغط الذي كان الشعب يعاني منه، ثم انضم لهم الغاضبون ثم اليائسون ثم المتفرجون.

بدأت المظاهرات بالعبارة التي كادت تُنسَى و هي "عيش... حرية... عدالة اجتماعية". الحاجة و الكبت و اختفاء الطبقة الاجتماعية الوسطى كانت هي الدوافع الأولى للثورة. ثم تحول الهتاف بعد استمرار القمع إلى رغبة في هدم المنظومة كاملة و بناء أخرى جديدة، فسمعنا الهتاف الذي ردده الملايين "الشعب يريد إسقاط النظام"، ثم رفض النظام ممثلاً في مبارك أن ينحني لإرادة الملايين، فتحول الهتاف إلى "الشعب يريد إسقاط الرئيس" ثم قالها صراحة "ارحل" ثم لما استمر العند بدأ المتظاهرون في استخدام اللهجة العدائية فقالوا الهتاف الشهير "ارحل يعني امشي... ياللي ما بتفهمشي".

و تنحى مبارك عن الحكم و تركه في يد المجلس الأعلى للقوات المسلحة، و كنت وقتها و لا زلت أعتقد أنهم من أصفياء مبارك و بطانته، و لكن الشعب فرح و هتف "الجيش و الشعب إيد واحدة". و هكذا "انفض المولد" كما يقولون و أشرق الأمل في نفوس الكثيرين؛ أمل في مستقبل أفضل و دولة عصرية حديثة تناطح القوى العظمى في العالم. وقتها كنت أتمنى أن يتأسس نظام جديد يضمن المطالب الأساسية و هي سد الحاجة و إطلاق الحريات و تقليل الفوارق بين الطبقات. كان رأيي وقتها أننا لا بد أن نهتم بأشياء ثلاثة أراها لازمة لتأسيس دولة حديثة و هي الاهتمام بالتعليم و الرقي به، و تطهير الإعلام الرسمي، و كتابة دستور يضمن البداية الجديدة التي نريدها جميعاً.

ثم جاءت لعبة الاستفتاء على تعديل مواد الدستور فدقت المسمار الأول في نعش الثورة. بدلاً من أن نكتب دستوراً جديداً يعبر عن كل طوائف الشعب و يضمن المساواة التامة، انقدنا إلى خدعة تعديل دستور قديم على عجالة لا تسمح بالاتقان، و خاف العديدون من استمرار حكم رجال الجيش و جروا وراء وهم تسليم السلطة لمدنيين بعد أشهر ستة، و ظهرت حرب وهمية اسمها المادة الثانية من الدستور التي لم تطرح أساساً للتعديل و لا للحذف، فتاه المبدأ الأساسي و هو كتابة دستور جديد يجمع الأمة و يعبر عنها و صار الاستفتاء اختياراً بين حكم العسكر و الحكم المدني أو بين خذلان الدين أو نصرته، فابتلانا الله بغزوة الصناديق التي عكست كم الجهل و الاستقطاب الديني الذي أورثنا إياه النظام القديم، و انقسم الشعب لمن قالوا نعم و من قالوا لا، و ازداد الاحتقان الطائفي الموروث و ازداد معه خوف الأقباط كأقلية و ثقة تيار الإسلام السياسي في انقياد الشارع له باسم الدين.

ثم انطلقت الأحداث الطائفية التي كانت قد بدأت قبل الاستفتاء بهدم و إحراق كنيسة صول ثم بعدها بأيام أحداث المقطم في مارس ٢٠١١، فتظاهر أهل قنا و قطعوا الطريق لرفضهم محافظاً قبطياً و حدثت مشاحنات طائفية في أبي قرقاص في أبريل ٢٠١١، ثم حُرِقت كنيسة في حي إمبابة و أثير موضوع كاميليا من جديد لفترة من الزمن و اعتُدِيَ على كنيسة في عين شمس في مايو ٢٠١١، ثم هدمت كنيسة أخرى في قرية المريناب بأسوان في سبتمبر ٢٠١١، ثم تلاها أحداث ماسبيرو في أكتوبر ٢٠١١ و راح ضحيتها قرابة الثلاثين قبطياً و شارك الإعلام الرسمي في إذكاء الفتنة، ثم أحداث طائفية في أربع قرى بأسيوط في ديسمبر ٢٠١١، و انتهاء (حتى تاريخ الكتابة) بتهجير أقباط من العامرية في فبراير ٢٠١٢.

و في هذه الأثناء كان نجم تيار الإسلام السياسي يعلو و يتألق، فخرجت جماعة الإخوان المسلمين من عملها تحت الأرض و انتهى عصرها كجماعة محظورة، و أسست في يونيو ٢٠١١ حزب الحرية و العدالة كذراع سياسي لها، كما أسست الدعوة السلفية (تلك التي لم يكن لها علاقة بالسياسة إطلاقاً) حزب النور في نفس الشهر، كما نشأت أحزاب سياسية أخرى على المنهج السلفي مثل حزب الأصالة و حزب البناء و التنمية، هذا بالإضافة لحزب الوسط الذي كان موجوداً بالفعل على الساحة، و في المقابل تكونت أو برزت أحزاب يسارية التوجه كحزب الكرامة و حزب العدل و الحزب المصري الديمقراطي و أحزاب ليبرالية التوجه كحزب المصريين الأحرار و حزب حقوق الإنسان، و نشأت على الساحة السياسية صراعات مستمرة بين التيار الإسلامي اليميني و التيارين اليساريين الاشتراكي و الليبرالي، و ظهرت حربان جديدتان هما الحرب ضد العلمانية و الحرب ضد الأسلمة السلفية أو الإخوانية. و داخل هذه التيارات كانت هناك صراعات جانبية بين الأحزاب المختلفة.

و في شهر أغسطس ٢٠١١ قرر المجلس العسكري أن يروّح عن الجماهير بإذاعة جلسات محاكمة الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، و نتج عنها ازدياد التوتر بين مؤيدي الرئيس المخلوع و كارهيه و معارضيه، فتم وقف الإذاعة في الشهر التالي.

و في نوفمبر ٢٠١١ بدأت الانتخابات البرلمانية التي سبقتها الدعاية الانتخابية مستغلة كل الطرق المشروعة و غير المشروعة في سبيل الوصول للبرلمان، و استمرت انتخابات مجلسي الشعب و الشورى حتى يناير ٢٠١٢، غير أن الإقبال على انتخابات مجلس الشورى كان محدوداً ربما لإحساس الشعب و المرشحين على حد سواء بقلة أهميته، و أثناء الانتخابات تصاعدت مرة أخرى النبرة الطائفية، فانتشرت الشائعات عن دعم الكنيسة القبطية للكتلة المصرية بشكل نظامي نكاية في التيار الإسلامي و في المقابل استغلت التيارات غير الإسلامية الخوف من الإسلام الأصولي (أو كما يطلق عليه البعض إسلاموفوبيا) في الدعاية الانتخابية، و انقلبت الانتخابات إلى حرب منتهاها خذلان الدين أو نصرته، و كانت النتيجة فوز التيار الإسلامي بالأغلبية البرلمانية، و خاصة حزب الحرية و العدالة المنتمي للإخوان المسلمين. و لغياب المعايير الصحيحة في اختيار النائب، و لغياب الكفاءات فقد كان أداء البرلمان هزيلاً مخيباً للآمال.

و سبقت الانتخابات البرلمانية أحداث محمد محمود الشهيرة التي استمرت من ١٩ نوفمبر إلى ٢٥ نوفمبر ٢٠١١ و راح ضحيتها العديدون، و كان من نتائجها استقالة وزارة عصام شرف و تبكير موعد انتخابات الرئاسة بحيث يتم تسليم الرئاسة للرئيس المنتخب قبل منتصف ٢٠١٢ بدلاً من الموعد المقترح سابقاً في ٢٠١٣. و بدأنا نسمع هتافاً جديداً هو "يسقط يسقط حكم العسكر".

و في ديسمبر ٢٠١١ وقعت أحداث مجلس الوزراء و حريق المجمع العلمي و كان مجلس الشعب منعقداً أثناء تلك الأحداث و للأسف لم يحرك ساكناً لوقف تلك المذبحة، بل وصف بعض أعضائه المتظاهرين حينذاك بأنهم بلطجية مرتزقة مدمنو مخدرات، و لام العديد من أتباع التيار الإسلامي على "ست البنات"--الفتاة التي سحلها الجنود و عروها في الشارع--بدلاً من الدفاع عنها.

ثم حدثت مصيبة ألتراس الأهلي في استاد المصري ببورسعيد في أوائل فبراير ٢٠١٢ و أحدثت المزيد من الانقسام بين المصريين و بين مشجعي الكرة، ثم طلع علينا الشيخ محمد حسان بالنعرة الوطنية الدينية الإسلامية رافعاً راية الكرامة في ذات الشهر مقترحاً جمع المعونة الأمريكية من تبرعات المصريين، و أثارت هذه الفكرة جدلاً واسعاً و المزيد من الإسلاموفوبيا، ثم تلا ذلك في مارس ٢٠١٢ قضية أنف البلكيمي و ما نتج عنها من تشويه لصورة الإسلاميين و المزيد من الانقسام و التفتت، ثم فضيحة سفر المتهمين الأمريكان في قضية التمويل الأجنبي و ما تلاها من التشكيك في نزاهة القضاء المصري قبيل انتخابات الرئاسة. و في أبريل ٢٠١٢ حدثت فتنة الكاذب أبي إسماعيل، ثم قضية الجيزاوي و ما تلاها من قلاقل و انقسام في الرأي العام.

ثم انتخابات الرئاسة في مايو ٢٠١٢. و الحق يقال أنني لفترة قصيرة وقتها شعرت ببعض الأمل، و جاءت نتائج الفرز تؤكد أنه ربما يكون هناك أمل، فلم يحصد أي من المرشحين أكثر من ربع أصوات الناخبين. ولت أيام نسبة ٩٩٪ التي كنا نسمعها. و لكن للأسف حدثت أخطاء أيضاً كان من المفترض تلافيها إن كنا نتعلم من أخطاء الماضي. استخدم الإخوان الدين و الرشاوى العينية في الحشد، كما استخدمت بعض الكنائس الإسلاموفوبيا للحشد لصالح شفيق، و لا أعلم لماذا شفيق. ربما هم خائفون فعلاً من تيار الإسلام السياسي و خاصة بعد ازدياد الأحداث الطائفية بشكل غير مسبوق و استخدام بعض رموز هذا التيار عبارات مرعبة للأقباط مثل "الجزية" و "تطبيق الشريعة" و "دولة الخلافة" بمفاهيم قديمة لا تتناسب أبداً مع العصر الحديث، فظن بعض الأقباط أن النظام القديم الظالم قد يكون أرحم بهم مما ينتظرهم على يد التيار الإسلامي السياسي. لا أستطيع أن ألومهم على هذا، فهم لم يروا من هذا التيار إلا ما يخيفهم على مستقبلهم.

و انتهينا إلى إعادة بين أسوأ مرشحين في نظري و الذين لم أكن أتصور أن عاقلاً يعطي أياً منهما صوته. و عدنا إلى حديث الطائفية، و تحولت معركة الانتخابات إلى حرب مقدسة بين المسلمين و أعداء الإسلام. و مشكلة هذه الحرب المقدسة أنها تترسخ في الأذهان بشكل مضطرد، و ما عليك إلا أن تصل بالفكرة إلى "الكتلة الحرجة" على حد تعبير الفيزياء، ثم يبدأ العند و التعصب من الطرفين في نشر الفكرة و ترسيخها بدون أي مجهود إضافي.

فلماذا إذاً قمنا بالثورة؟ "عيش... حرية... عدالة اجتماعية". هل حققنا أياً من هذه الأهداف؟ ربما نكون قد حققنا الحرية جزئياً في الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة، و لكن ها هي تضيع مجدداً و نحن من يضيعها. لا نضيعها بانتخاب هذا أو ذاك، و إنما بالحجر على أفكار و آراء و أصوات الناخبين من الشعب المصري، و رمي بعضنا البعض بتهم الخيانة و التآمر، و بدلاً من أن نقول رأينا بحرية و نحترم حرية الآخرين في الرأي رحنا نحاول أن نفرض رأينا على الآخرين سواء بالتهديد أو بالابتزاز أو بالخداع أو بالرشوة.

"عيش... حرية... عدالة اجتماعية". ما زال الشعب المصري بعد عام و نصف من الثورة يعاني من الفقر و الحاجة و فيه من قد لا يجد قوت يومه، و ما زالت العدالة الاجتماعية غائبة، و ها نحن نقتل الحرية بأيدينا، و ها نحن قد انقسمنا إلى مئات الطوائف المتضاربة المتطاحنة بدلاً من الاتحاد تحت راية الوطن. فلماذا قامت الثورة إذاً؟ ربما لترينا أقبح ما فينا و تعرفنا أننا نحتاج لثورة على أنفسنا أولاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق